من نجوم أعلام الأمة التركمانية
أحد أسمى آيات الطب البشري في البلاد الإسلامية
الشيخ الرئيس: (ابن سينا)
(الاخيرة)
ودوما.. تهتف أشواق عشاق العلم في أعماقهم أن القناعة - أمام مزيد من المعرفة - كنز يفنى!!..
وما كان للقناعة بمحدودية المعرفة سلطان على ولع ذهن (الحسين بن سينا) المتفاقم بمعارف العلوم جميعا!!.. فبعد ما علمناه من إتمامه دراسة علم الفقه على يد أستاذه (اسماعيل الزاهد)، وعلوم المنطق والفلك والأصول الهندسية ثم الطبيعيات والفلسفة مع أستاذه (أبو عبيد الله النائلي)، قضى زمنا - اختزلته عبقرية عقله وجديته التي لا تفتر في القراءة والاطلاع إلى ثلاث سنوات أخرى فحسب - في دراسة الطب على يد اثنين من خيرة أطباء الأمير (نوح بن منصور).. وهما: (الحسين بن نوح القمري) و (أبو سهل المسيب)..
ومن هنا بدأت به أولى خطوات مسيرة النضال في حياته، يوم شهر سلاح علمه في وجه فرعون الفقر الذي لم تعتق شراسة قسوته الكثير من سكان مدينة بخارى، فرصد ما علمه الله تعالى من علوم الطب في معالجة الفقراء ومن اعتصر أيامهم بؤس الفاقة، ولم يتوان عن زيارتهم حيث هم دون أن ينال أجرا من أحدهم إلا ما يسبغونه عليه من دافئ دعواتهم المنبثقة من أعماق فاضت عرفانا بالجميل..
ونشط خلال تلك الفترة في إجراء التجارب العملية على ما عرفه من علوم الكيمياء والصيدلة في العقاقير النباتية والحيوانية منها وكذلك المعدنية حتى وصل بها إلى أبعاد علمية غير مسبوقة أدت إلى ميلاد آفاق جديدة باهرة التميز في الطب والكيمياء لا عهد لأحد بها من الأطباء والكيميائيين في زمانه على الإطلاق، ولطالما أعرب مفصحا عن وجهة نظره القائلة بأن (الطب أشبه بالكيمياء من حيث أنه لا تكفي فيه الدراسة النظرية وحدها، ويجب أن يقترن الطب بالدراسة العملية مثلما يجب أن يقترن الكيمياء بالتجارب المعملية، والطب أمره هين لمن يعطيه حب القلب وذكاء العقل، فهو ليس من العلوم الصعبة!!).. ولا بأس لنا هنا كذلك بذكر شئ مما نقله لنا عنه صاحبه (أبو عبيدة الجوزجاني) حين قال ابن سينا في حديثه عن بعض شؤون حياته خلال تلك الفترة:
(ثم رغبت في علم الطب، وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أني برزت فيه في أقل مدة حتى بدأ فضلاء الطب يقرؤون علي علم الطب.. وتعهد ت المرضى فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه وأناظر فيه، وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة..
ثم توفرت على العلم و القراءة سنة ونصفا، فأعدت قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة.. وفي هذه المدة ما نمت ليلة بطولها، ولا اشتغلت النهار بغيره، وجمعت بين يدي ظهورا، فكل حجة طنت أنظر فيها أثبت مقدمات قياسية، ورتبتها في تلك الظهور ثم نظرت فيما عساها تنتج، وراعيت شروط مقدماته حتى تحقق لي حقيقة الحق في تلك المسألة.. وكلما كنت أتحير في مسألة ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس ترددت إلى الجامع، وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق، وتيسر المتعسر)
ويذكر فيما يذكر من تاريخ تلك الأيام ما كان من انتشار الأمراض بين الناس في مدينة (بخارى) حتى لم يردعها رادع عن التسلل إلى قصور الأغنياء والأمراء وما عداهم من أكابر الناس وعلية القوم، وبالغت وأسرفت قسوة تلك الأمراض بالفقراء خاصة لفرط تردي أحوالهم المعيشية فاشتد فتكها بهم، وكان أطباء المنطقة قليلي العدد مما أغرى ذوي الضمائر الغافية منهم بالمبالغة والإسراف فيما يطلبونه من أجور لا طاقة لبسطاء القوم من المعسرين ماديا بها وذاك لعلمهم بشدة الحاجة إليهم في مثل حين ذاك البلاء.. فأخذ أبو علي (الحسين بن سينا) ينفق أقصى خلاصة جهده في علاج الفقراء ممن يزورهم في مساكنهم أو من يسعون إليه في مسكنه بلا أجر إشفاقا من روحه النقية عليهم وإخلاصا منه في تأدية رسالته التي أدرك أن العناية الإلهية إنما هيأته لها بما حبته إياه من نعمة العلم والنبوغ كي لا يبخل بشئ منها على محتاجيها من الناس، فكانت مكافأة السماوات له بأن حلق اسمه مرفرفا في فضاءات الشهرة كطبيب معالج واسع الرحمة بالفقراء..
((ونتذكر.. أنه لا لأجل إغراء وثن بائس البأس يسمونه المال كان يعمل، بل بوحي من صدق المبدأ، والمبدأ بذاته هو في جميع سير العظماء وحي الإبداع ووالد النبوغ، وعندما ينتحر المبدأ بوفاة الضمير يستحيل الإنسان في نفس المبدع أو النابه إلى (لا أحد)، فيصير وجوده – بطريقة ما - عالة على الإنسانية، ويغدو جسده القشر بعد موت لباب روح الأحاسيس الراقية في نفسه محض مقبرة تافهة لعقله الذي سرعان ما تكتسحه عدوى الصدأ أو التعفن!!!!..))
و من بين مرضى بخارى كان الأمير (نوح ابن منصور) الذي أنهكه ما كان يشكوه من تسلط آلام قرحة المعدة والتهاب القولون المزمن على صحته، حتى يئس طبيباه من قدرتهما على التوصل لعلاج يشفي الداء الذي استولى على جسده، ولم يجدا حين ذاك مفرا من نصح الأمير باستشارة الطبيب الشاب أبي علي (الحسين بن سينا)، فلم يهدر الأمير وقتا كي يرسل في طلبه رجاء أن يتمكن من علاجه.. وسرعان ما أدرك أبو علي علة الأمير نوح بعد برهة يسيرة من فحصه، فطلب من الأمير الإذن له بأن يلزمه نظاما خاصا في الغذاء مع الدواء، ولم يجد الأمير والعلة تنهش راحته بدا من الاستسلام لأمر طبيبه الشاب محروما من صنوف طعام لطالما أحبها واشتهاها وآثرها على ما سواها، حتى أخذت الآلام المستولية على معدته وأمعائه تنحسر بحدتها يوما بعد آخر حتى شفي وعوفي بفضل من الله تعالى.. وبلغت منزلة ابن سينا في نفس الأمير مكانا عليا جعله راغبا في مكافأته أي مكافأة يشاء، لكن ابن سينا الذي كانت روحه مولعة بما يعرض عنه كثيرون سواه لم يطلب من الأمير غير الاذن برؤية مكتبته، التي يسيل لها لعاب الفكر!!..
كانت مكتبة الأمير شهية المضمون يسيل لها لعاب الفكر!!.. وكانت فسيحة تشغل قاعات كثيرة، بها صناديق للكتب ودفاتر هي سجلات تحتضن أسماء تلك الكتب وفروع العلم الذي دونت فيه.. ويذكر – والله أعلم- أن تلك المكتبة المذكورة في ذاك الزمان كان بها ثلاثون ألف كتاب ليس بينها كتاب مكرر النسخة، وليس بينها كتاب إلا وهو مرجع فريد ووحيد.. واستأنس ولعه للعلم والمعرفة بتلك المكتبة الشهية والوليمة العلمية الثقافية الدسمة، فأغرق أوقات ليله ونهاره بقراءة كتبها، إذ لم يفارق جدرانها في النهار إلا يسيرا، ولم يعتق قناديل مسكنه ومشكاواته ليلا من مقاسمته السهر لإتمام قراءة ما كان يستعيره من كتبها وهنا نذكر بعض ما قاله ابن سينا عما أبصره في تلك المكتبة الثمينة.. أو بالأحرى.. التي لا تقدر بثمن مادي أبدا، وكيف نال الفرصة بالاطلاع على كتبها القيمة:
(وكان سلطان بخارى في ذلك الوقت " نوح بن منصور "، واتفق له مرض اتلج الأطباء فيه، وكان اسمي اشتهر بينهم بالتوفر على القراءة، فأجروا ذكري بين يديه وسألوه إحضاري، فحضرت وشاركتهم في مداواته وتوسمت بخدمته فسألته يوما الاذن لي في دخول دار كتبهم ومطالعتها وقراءة ما فيها من كتب الطب، فأذن لي.. فدخلت دارا ذات بيوت كثيرة في كل بيت صناديق كتب منضدة بعضها على بعض، في بيت منها كتب العربية والشعر، وفي آخر الفقه، وكذلك في كل بيت علم مفرد..
فطالعت فهرست كتب الأوائل وطلبت ما احتجت إليه منها، ورأيت من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس قط، وما كنت رأيته من قبل ولا رأيته أيضا من بعد.. فقرأت تلك الكتب وظفرت بفوائدها، وعرفت مرتبة كل رجل في علمه..)
ومع أن ابن سينا لم يعتق أوقات يقظته من اشتغاله بالعلم والفكر والعمل والمطالعة، إلا أنه بخل كذلك حتى على أوقات نومه بنسيان ذلك، إذ لم يكن يغفو غفوة قصيرة حتى تتسلل إلى أحلامه تلك المسائل الفكرية والعلمية التي طالما أشغلت ذهنه واهتم لها في ساعات يقظته!!.. وفي هذا كان الشيخ الرئيس يقول:
(وكنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والكتابة.. ومهما أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى أن كثيرا من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام..
وكذلك حتى استحكم معي جميع العلوم، ووقفت عليها بحسب الإمكان الإنساني.. وكل ما علمته في ذلك الوقت فهو كما علمته الآن.. لم أزدد فيه إلى اليوم، حتى أحكمت على المنطق والطبيعي والرياضي.. ثم عدلت إلى الإلهي)..
وكان ابن سينا ذو علاقة نفسية شفافة بربه، فإيمانه بحقيقة وجود الخالق ومدى عظمته يتجاوز قشور العبادات إلى لباب رسوخ الإيمان بالخالق بعد تمام يقين المعرفة والاستدلال عليها بمحض التجربة العقلية الموائمة لصفاء الفكر، فإذا تزاوج ذلك برقة في العاطفة وسمو في وجدان النفس المؤمنة، فإنها تتجاوز غير قليل مما يأسر انطلاقة روحها عبر العوالم الروحية السامية المجهولة، ويتجلى لها ما لا يتجلى لسواها من غوامض الأمور ومعمياتها.. ولأن ابن سينا قد أنعم الله تعالى عليه بروح تنفرد بشفافية بعيدة الآفاق فوق كونه صادق النية في سعيه، كان الله تعالى يجود عليه بتيسير عسير الأمور له بمواقف تكاد تكون إلى المعجزات أقرب!!..
ويذكر فيما يذكر من أمثلة ذلك أنه في مطلع شبابه كان يقرأ ذات يوم في كتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو.. فاستعصى عليه فهمه وإدراك مبتغاه رغم ما أنعم الله تعالى عليه من ملكة الفهم وحدة الذكاء!!.. ولم ينل اليأس من عزيمة رغبته للإلمام بعلوم ذاك الكتاب، فثابر على قراءته مرارا بلغت أربعين مرة حتى حفظه عن ظهر قلب لفرط تكرار قراءته.. وأعرض عنه إذ ذاك بعد أن تسلل اليأس بخبثه المثبط للهمة إلى نفسه رغم شدة رغبته في إدراك فحوى الكتاب والتوصل لفهم مضمونه..
حتى إذا كان ذات يوم يمشي في حي الوراقين (اسم يطلق على باعة الكتب في الزمن الغابر) مر بدلال كتب ينادي على مجلد في يده عارضا إياه للبيع، واعترض الدلال طريق (أبي علي) ليعرض ذاك الكتاب الفلسفي عليه راجيا إياه أن يشتريه، فأعرض أبو علي عنه ظنا منه أن لا فائدة ترجى من ذلك، لكن البائع أسرف في إلحاحه متوسلا بكون بضاعته كتاب زهيد الثمن وصاحبه على ذلك في حاجة ماسة لثمنه بالفعل، ولولا ذلك لما فرط به وعرضه للبيع.. فضلا عن أنه لن يندم إن اشتراه.. حتى رق قلب أبو علي ذو النفس المرهفة وأشفق على صاحب الكتاب.. فاشتراه لوجه المعونة لا أكثر.. وحمله معه دون أن يعبأ بالاطلاع على فحواه حتى وصل إلى بيته، فنظر إليه وإذا بلذة المفاجأة تتدفق بطوفان من السعادة إلى نفسه!!.. فذاك الكتاب الذي كاد يهمل شرائه هو كتاب لفيلسوف زمانه (أبي نصر الفارابي) وهو في شرح أغراض كتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو!!!!.. لقد كافأه الوهاب على إحسانه وملكة حبه للناس.. فوهبه مبتغاه..
وإثر صلاة فجر اليوم التالي.. سارع ابن سينا لفرط سعادته وامتنانه لهبة خالقه ببذل ما استطاع للفقراء صدقة من ماله الخاص.. شكرا لله تعالى.. وإليكم ما نقله لنا صاحبه أبو عبيدة من حديث ابن سينا بشأن تلك الحادثة الناطقة بعبرة سافرة المعنى:
(وقرأت كتاب " ما بعد الطبيعة"، فما كنت أفهم ما فيه، والتبس علي غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظا، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به!!.. وأيست من نفسي وقلت: "هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه".. وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلال مجلد ينادي عليه، فعرضه علي فرددته رد متبرم، معتقدا أن لا فائدة من هذا العلم.. فقال لي اشتر مني هذا فإنه رخيص أبيعكه بثلاث دراهم، وصاحبه محتاج إلى ثمنه، واشتريته فإذا هو كتاب ل(أبي نصر الفارابي) في أغراض كتاب "ما بعد الطبيعة".. ورجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته.. فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان محفوظا لي على ظهر قلب.. وفرحت بذلك وتصدقت في ثاني يومه بشئ كثير على الفقراء شكرا لله تعالى فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري، فرغت من هذه العلوم كلها.. وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شئ..)
وقبل أن نجتاز بحديثنا شوطا يبتعد بنا إلى فترة أخرى من فترات حياته بعد ما طرأ عليها من تغير.. لا بأس لنا من الإشارة في هذا الموضع إلى ما ذكره ابن سينا بشأن بعض ما صنفه من الكتب نزولا عند رغبة اثنين من جيرانه في ذلك الحين:
(وكان في جواري رجل يقال له: (أبو الحسين العروضي).. فسألني أن أصنف له كتابا جامعا في هذا العلم، فصنفت له المجموع وسميته به، وأتيت فيه على سائر العلوم سوى الرياضي، ولي إذ ذاك إحدى وعشرون سنة من عمري.. وكان في جواري أيضا رجل يقال له: (أبو بكر البرقي)، خوارزمي المولد، فقيه النفس، متوحد في الفقه والتفسير والزهد، مائل إلى هذه العلوم، فسألني شرح الكتب له فصنفت له كتاب: " الحاصل والمحصول" في قريب من عشرين مجلدة، وصنفت له في الأخلاق كتابا سميته: " كتاب البر والإثم"، وهذان الكتابان لا يوجدان إلا عنده، فلم يعر أحدا ينسخ منهما!!!!..)
ورغم بقاء الحسين بن سينا طبيبا للأمير نوح من علاجه الناجح الأول له، إلا أنه لم يفرط بمواصلة تثقيفه لنفسه بنفسه من خلال القراءات والدراسات الجادة الحرة والتي لا يغفل عنها النظام، فضلا عما كان يرصده من جوانب نهاره ليقضيه مع والده في مقر ولاية (بخارى)، كي يتعلم على يدي أبيه عمليا حكمة الإدارة.. وينتفع بما يتعلمه من ذلك في معاونة والده أثناء عمله..
وفي ذلك الحين كانت شمس (الدولة السامانية) التي كانت عاصمتها بخارى ترتعش حياتها التي نال منها الإعياء الظاهر، ولأن (عبد الله بن سينا) ما كان غافلا جاهلا بشؤون الدولة وأطوار تدهورها، فقد أدرك أن تلك الدولة قد بدأت تحتضر، وعرف أن العلم مع رجل تعاف نفسه أخذ أجر عنه كابنه الحسين لن يكفل له من الحياة مثل ما عاشه من قبل، بل ولاريب أنه سيكون مجلبة لضغائن شرار الحساد وألد الخصوم، فنصحه بإعداد نفسه للرحيل احتياطا لما قد يكون من اغتيال (الدولة السامانية) المرتقب على يد الأمراء الغزنويين المتمردين..
وصدقت تنبؤات الوالد..
اشتدت شراسة افتراس المرض لصحة الأمير (نوح) حتى فتك المرض بحياته وحلقت روحه مستسلمة بالعودة إلى بارئها..
وشبت النار في مكتبة القصر الساماني لتلتهمها بما تحويه عن آخره، ومع أن (أبا علي) كان في منزله ليلة الحادث بين جماعة من أصدقائه، إلا أن شرذمة ساقطي النفوس التي تتقلقل بين أطباق الحسد من بعض من عرفوا بكونهم علماء قد وسوسوا بين عامة الناس بتهمة كاذبة ما كانت إلا بهتانا لابن سينا راجمين سمعته بأنه هو الذي أجرم بإحراقها حتى لا يعرف سواه من الناس ما كان في كتبها من علوم ومعارف نادرة فريدة.. وذاب بين تصاعد لغط الغوغاء من الناس وبهتانهم لابن سينا صوت المخلصين من أساتذة (أبي علي) الأحياء وهم يدافعون عنه مؤكدين صدق إيمانه بكون العلم ليس حكرا على أحد، ويرى ضرورة نشر العلم بين كافة الناس.. فما كان من ابن سينا إلا أن كظم حزنه، وانطوى على همه في داره بصبر منتظرا خمود الشائعة الملعونة.. ولم تلبث الأيام إلا زمنا يسيرا حتى انقضت عليه بفاجعة وفاة والده الحبيب إلى نفسه.. فما كان منه بعد زمن من مرور المحنة على أهل الدار إلا أن يعد عدته لمفارقة مدينة ظلم على أرضها وانهالت عليه المصائب تباعا حتى ما عاد يطمئن على نفسه فيها، واستقر رأيه على الرحيل إلى مدينة (الجرجانية).. عاصمة الدولة الخوارزمية في الشمال.. ومنذ ذاك اليوم الذي قرر فيه الهجرة من بخارى، واستقر فيه رأي أخوه (الحارث) على البقاء فيها إلى حين يعلم الله تعالى أجل ميقاته.. بينما اختارت والدتهما العودة إلى أهلها في قرية (أفشنة).. بدأت رحلة الشتات والتعب والسهر والقهر في حياة الحسين بن سينا الذي كان قد بلغ من العمر حينها -على قول أهل التأريخ- اثنتين وعشرين سنة.. ولهذا حديث آخر..
------------------------------------------------------
تلقى ابن سينا استقبالا حسنا من الأمير(علي بن مأمون) أمير خوارزم حين وصوله إلى مدينة(الجرجانية) بعد أن سبقت شهرة ابن سينا في علمه الوصول قبله إلى مسامع الأمير الذي كان مولعا بالعلم والعلماء ولعا حدا به لإنشاء مجمع علمي ضم صفوة علماء زمانه، نذكر منهم الفيلسوف (أبو سهل المسيحي)، والطبيب (أبو الخير الحسن)، والرياضيان (أبو نصر ابن العراق) و (عبد الصمد الحكيم).. والجغرافي الفلكي (عبد الرحمن البيروني).. وقرر الأمير راتبا شهريا لابن سينا بضمه إلى مجلس العلماء في مجمعه العلمي..
وقرر أبو علي ألآ يشتغل بالسياسة مثلما كانت حاله مع أبيه في بخارى وأن يشبع رغبته في إثراء العلم والاستزادة منه بمواصلة أبحاثه و قراءاته ومعالجاته للمرضى بين الحين والحين، وبالتنقل بين مدن الجرجانية ساعيا للتزود بمزيد من الكتب والاستزادة من معارف العلماء.. وعمل على أن يصل بعصارة فكره إلى ما يوفق به بين الفلسفة والدين وبين العلم والدين، فليس لآراء في الفلسفة والعلم يراها العقل ناصعة الحقيقة أن تتناقض مع دين يدعو لشحذ همة النفس في سبيل طلب العلم ونشاط الفكر..
شارفت سنواته في الجرجانية حدود العشر، وبدأ يؤلف كتابه الشهير في الطب (القانون).. ولم يكد ينتهي من جزءه الأول حتى جاءت إلى الأمير (علي بن مأمون) رسالة تنبعث منها رائحة نبأ مشؤوم من السلطان (محمود الغزنوي) حاكم (الدولة الغزنوية) التي استولت على موقع الدولة السامانية وقامت على أنقاضها.. يطلب فيه أن يبعث إليه بما يضمه مجمع الجرجانية العلمي من علماء، فما كان من الأمير المأموني إلا أن بادر إلى الاجتماع بعلماء مجمع الجرجانية وصارحهم بأمر الرسالة مشيرا إليهم أن لهم الخيار في أنفسهم، من شاء منهم ذهب إليه، ومن شاء بقي ليحميه ما استطاع ومن شاء الرحيل عن خوارزم فهو وما يشاء لنفسه..
وأدرك أبو علي أن السلطان الغزنوي ليس ممن يحترمون العلماء أو يأبهون بهم حتى، ولكنه يخشى بأس قوة علومهم عند غيره من الحكام، وأنه لن يكون رحيما بغير علماء الدين فحسب ممن يذهب منهم إليه ((ونحن نفكر: من يدري؟؟!! ربما كي يستخدمهم أداة لتخدير فكر الشعب لاسيما السذج منه كذلك!!)) فهو رجل لا يؤمن بغير صوت السيف ولا مكان في قلبه لعلوم الدنيا والناس.. ومثله لا حياة له عنده..
وكان أبو علي تعرف إلى الأمير قابوس بن وشكمير أمير الدولة الزيارية جنوبي بحر قزوين في إحدى زياراته للدولة الخوارزمية فقرر الرحيل إليه بصحبة صديقه العالم الفيلسوف (أبي سهل المسيحي)، فغادرا الجرجانية تحت ستار ظلام الليل في ثياب الدراويش حتى لا يتعرف إليهما أحد من جواسيس السلطان (محمود الغزنوي) وعيونه.. وتعرض هو وصاحبه لأخطار عسيرة الاحتمال في الطريق، كان منها أن هبت عاصفة رملية جبارة في الصحراء هلك فيها (أبو سهل المسيحي) ونجا أبو علي من شر العاصفة ليبكي صاحبه..
وواصل هروبه إلى (أبيورد) ثم (طوس) ثم (نيسابور) حتى وصل إلى جرجان عاصمة (الدولة الزيارية) لينزل ضيفا على الفيلسوف (أبي محمد الشيرازي) فيقدمه إلى الأمير قابوس الذي أحسن استقباله وضمه إلى مجلس علمائه وخصص له بذلك راتبا شهريا، واشترى أبو محمد لابن سينا دارا واسعة مجاورة لداره..
وجاء لزيارته يوما عالم فقيه تذكر بعض المصادر أن اسمه (أبو عبيدة الجرجاني) وبعضها (أبو عبيدة الجوزجاني).. واستراح كل منهما لصاحبه فصارا صديقين.. وأحب أبو عبيدة أن يكون تلميذا لابن سينا..
واعتاد أن يملي على صديقه أبي عبيدة ما يريد تدوينه من مؤلفات حتى يفرغ عقله للتفكير فيما يمليه، وكان أبو علي يملي ما يمليه في كتابين أحدهما في كتاب القانون الطبي الذي كان قد أنجز جزأه الأول في الجرجانية والآخر كتاب الشفاء في علوم الطبيعيات والرياضيات والإلهيات، وكان من عادة أبي علي ألآ يتوقف عن إملائه إلا حين يقول له صاحبه أبو عبيدة (بلغنا خمسين صفحة).. وإذ ذاك يحق بأن تبدأ لهما سهرة السمر مع الأصحاب من علماء جرجان كل ليلة..
وصار من العلماء المقربين إلى نفس الأمير قابوس حتى صار يعمل بنصائحه ومشورته التي ثبت صوابها في شؤون الحكم وأمور الدولة.. لكن قواد جيش الأمير دبروا انقلابا عسكريا ناجحا ضد أميرهم وسجنوه في قلعة حصينة، ثم أخذوا يبحثون عن أبي علي في (جرجان) التي كان قد سارع بالفرار منها وأخذ يتنقل بين المدائن (نسا).. (أبيورد).. و(طوس) حتى وصل إلى (دهستان) حيث انقض عليه مرض عسير فأخذ يعالج نفسه بنفسه إلى أن كتب له الشفاء..
وجاءته رسل الأمير قابوس تدعوه للعودة بعد أن نجح في القيام بانقلاب ضد قواد جيشه واستعادة قصر الإمارة، فعاد الشيخ الرئيس إلى جرجان متأثرا بدعوة الأمير.. لكن تمرد قواد الجيش على الأمير ثار مرة أخرى قتلوه فيها، فسارع أبو علي بالهرب بكتبه وأوراقه حتى وصل إلى بقعة يقال لها (دهستان) تصاعد عليه المرض فيها وعاد إلى جرجان!!..
قال الشيخ الرئيس في حديث له عن بعض ذلك:
(ثم مات والدي وتصرفت بي الأحوال، وتقلدت شيئا من أعمال السلطان، ودعتني الضرورة إلى الإحلال ببخارى والانتقال إلى كركانج.. وكان (أبو الحسن السهلي) المحب لهذه العلوم بها وزيرا.. وقدمت إلى الأمير بها وهو: (علي بن مأمون).. وكنت على زي الفقهاء إذ ذاك بطيلسان وتحت الحنك، وأثبتوا لي مشاهرة داره بكفاية مثلي..
ثم دعت الضرورة إلى الانتقال إلى (نسا).. ومنها إلى (باورد)، ومنها إلى (طوس)، ومنها إلى (شقان)، ومنها إلى (سمنيقان).. ومنها إلى (جاجرم) رأس حد خراسان، ومنها إلى (جرجان).. وكان قصدي الأمير (قابوس).. فاتفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسه في بعض القلاع وموته هناك.. ثم مضيت إلى دهستان ومرضت بها مرضا صعبا وعدت إلى جرجان، فاتصل (أبو عبيد الجوزجاني) بي، وأنشأت في حالي قصيدة فيها بيت القائل:
لما عظمت فليس مصر واسعي
لما غلا ثمني عدمت المشتري!
قال (أبو عبيد الجوزجاني) صاحب الشيخ الرئيس: " فهذا ما حكى لي الشيخ من لفظه، ومن ها هنا شاهدت أنا من أحواله.. "
ثم قال:
"وكان بجرجان رجل يقال له (أبو محمد الشيرازي) يحب هذه العلوم وقد اشترى للشيخ الرئيس دارا في جواره أنزله بها، وأنا أختلف إليه في كل يوم أقرأ (المجسطي) وأستملي المنطق، فأملى علي المختصر الأوسط في المنطق، وصنف لأبي محمد الشيرازي كتاب (المبدأ والمعاد)............ إلى آخر حديث طويل له "
ثم انتقل ابن سينا إلى الري واتصل بخدمة السيدة وابنها مجد الدولة، وعرفوه بسبب كتب معه وصلت تتضمن تعريف قدره، وكان بمجد الدولة إذ ذاك غلبة داء السوداء فاشتغل بمداواته، وصنف هناك كتاب المعاد، وأقام بها إلى أن قصد شمس الدولة أبو طاهر بن فخر الدولة البويهي، ومن المصادر ما تذكر أنه قد اتفق له لقاء ذلك الأمير حين أحضر لمجلسه بسبب داء كان قد أصابه عالجه منه حتى شفاه الله، وفاز منذ ذاك المجلس بخلع كثيرة ورجع إلى داره بعدما أقام في قصر الأمير أربعين يوما بلياليها صار خلالها من ندماء الأمير..
بينما مصادر أخرى تذكر أن سبب لقاء ابن سينا بالأمير البويهي هو أنه سمع يوما هو وصاحبه أبو عبيدة حين وصلا تلك البلاد على لسان صاحب خان فيها أن قريبا للأمير شمس الدولة البويهي نزل به من المرض ما لم يعرف له علاجا جميع أطباء همذان، فأشار أبو عبيدة لصاحب الخان أن صاحبه بوسعه علاج قريب الأمير لو تيسر لهما سبيل الوصول إليه.. فسعى صاحب الخان في تيسير سبل وصولهما إليه، وفحصه ابن سينا ليدرك أن ما استولى عليه من مرض إنما مرده إلى علة نفسية عاطفية، فأعلن لأهله من النصائح ما يشفى علة ابنهم المريض.. وسر الأمير شمس الدولة بإنجاز أبي علي ونجاحه فيما فشل فيه سواه، ثم ألح عليه أن يكون رئيسا لوزرائه ومستشارا له في شؤون الحكم حتى قبل.. على شرط ألآ يكون ذلك بغير العدل والنزاهة..
وهب ابن سينا حياته من الإخلاص في إدارة وقته مثلما بذل إخلاصه في إدارة شؤون الدولة، فكان يدير أمور الحكم الملقاة على عاتقه نهارا.. وفي الليل يتفرغ لإملاء كتبه على أبي عبيدة.. ولطالما أعرب عن أنه لا ينبغي للعالم أن يبقي شيئا من العلم في نفسه ولا يدونه في كتاب قبل أن يلقى وجه ربه الكريم..
ولطالما أشفق أبو عبيدة على أستاذه من إفراطه في بذل الجهد في إدارة الوزارة والتأليف وما عدا ذلك مما يلتهم طاقة الجسد البشري ويعجل بإتلاف صحته، فيبين له ابن سينا رأيه بأن حياة قصيرة غنية بالعلم والمسرة والعمل خير من حياة طويلة خاوية من تلك المتع الثلاث ينحني في خاتمتها الظهر ويسير صاحبها على ثلاث: قدميه والعصا..
وأذهل أصحابه ليلة حين فاجأهم بآلة عود لم يروا مثلها من قبل، به مفاتيح عند العنق ترفع الأوتار قليلا عنه، وبين لهم أن تلك المفاتيح تتيح للعازفين التحكم في درجة شد الأوتار، فالوتر الرخو أضعف نغما والوتر المشدود أحلى في الأنغام وترديد الأصداء..
ثم تدفقت مأساة بلاء هائل حين أوحى حبه للعدل أن يصدر من منصبه قرارا يوقف قواد الجيش عن تولي أمور الخراج وجباية أموال الفقراء بأكثر مما يطيقون فلا ينبغي لقائد الجيش أن يكون واليا ولا جابي خراج حتى لا يستولي تدفق الأموال على روحه القتالية وتفقد الدولة حياة الأمن بالمطامح والأطماع المادية.. فثار قواد الجيش على القرار وهاجموا بفصيلة من الجند مسكن أبي علي وقبضوا عليه وأسرفوا في ضربه واستولوا على جميع ما كان يملك ثم ساقوه مكبلا بالأغلال ليسجنوه في إحدى القلاع.. وطالبوا الأمير شمس الدولة أن يصدر حكما بإعدام ابن سينا.. لكن الأمير رفض ذلك رغم قبوله إلغاء القرار وعزل أبا علي من منصبه والإبقاء عليه في حبسه، وسمح لأبي علي بالكتب والأوراق والأقلام وزيارة صديقه أبو عبيدة كل نهار، وفي اليوم الأول الذي زاره فيه أبو عبيدة أملى عليه قصيدة طويلة من الشعر بث فيها شطر عظيم من أحزان نفسه. ((وثمة من يقول أن الأمير عدل عن قتله بنفيه من الدولة فتوارى في دار (أبي سعيد بن دخدوك) ما يربو على شهر من الزمان..))
ومرض شمس الدولة حتى حار الأطباء في علاجه، فقبل قواد الجيش خروج أبي علي من سجنه لعلاج أميرهم حتى شفي الأمير من مرضه بجهده.. واعتذر منه ثم بذل وسعه لاسترضاء قواد جيشه حتى وافقوا على إعادة أبي علي لمنصب رئاسة وزارة همذان..
توفي شمس الدولة فاعتلى العرش ابنه تاج الدولة الذي لم يكن قوي العزم كوالده فغدا سمعه مزرعة خصبة لحساد ابن سينا الذين أفرطوا في الوسوسة له بما يشين إلى سمعة أبي علي حتى عزله من منصبه وقطع رواتبه.. وخشي أبو علي من أن يطبق عليه السجن مرة أخرى فيغادر مسكنه مستترا بالظلمة ليختبئ في منزل صديقه (أبي غالب العطار) الذي أخلص في إخفاء أمره حتى ظن الناس أنه قد تمكن من الفرار من همذان.. إلا فئة قليلة من الأصدقاء الثقات ممن كانوا يترددون عليه تحت ستر ظلام الليل، لكن (تاج الدول)ة علم بمخبئه بعد أن اكتشف عيونه وجواسيسه أمر رسالة كان ابن سينا قد بعث بها إلى الأمير (علاء الدولة كاكويه) أمير الدولة البويهية في أصفهان طلبا للحماية، فداهم الجند دار أبي غالب وقبضوا على أبي علي ليلقى سجينا مرة أخرى في(قلعة مزدجان)..
وفي هذه المرأة لم يأبه بالسجن بعد أن اعتاده، بل عمد إلى الانغماس فيما يشغل ذهنه عما قد يطبق على نفسه من الهموم، فأغرق أوقاته وطوال فترة سجنه بتأليف كتاب الهدايات وتدوين رسالة عن مرض القولنج (القولون).. وكان يائسا من خروجه هذه المرة فصب حزن مشاعره في أبيات قصيدة بالغة العذوبة منها قوله:
دخولي باليقين كما تراه...... وكل الشك في أمر الخروج..
وبعد معركة خاضها جيش تاج الدولة مع أمير أصفهان وهزم فيها الجيش الهمذاني اضطر تاج الدولة لإخراج ابن سينا من سجنه، فدبر له أصحابه أمر الفرار من من همذان، فتنكر في زي الصوفية وانسل من تلك المدينة مع أخيه وصاحبه وغلامين له في ظلام الليل.. وكان قد بلغ من العمر حينذاك على حد قول المؤرخين خمسا وأربعين سنة..
وصل ابن سينا إلى أصفهان لينزل ضيفا في دار عبد الله بن بابي بحي (كونكيد)، واشترى لنفسه مسكنا يقيم به ويتفرغ للتأليف على أمل أن يظل بعيدا عن مكائد الساسة والعسكريين، وحقق له الأمير علاء الدولة ذلك على أن يجالسه مساء كل يوم خميس وأن يقوم برصد عملي للكواكب يصلح به فوضى التقاويم.. وانشغل أبو علي بالرصد الفلكي للكواكب مع تلميذه و صديقه ورفيق نضاله الفقيه أبي عبيدة وابتكر للرصد آلات جديدة ووضع ثمار جهد الفلكي في كتابه (الإنصاف في الأرصاد)، بعد عمل شاق استغرق منه ثماني سنوات أضاف خلالها جزءا في المنطق لكتابه (النجاة) الذي كان ملخصا لكتابه (الشفاء)..
وألح الأمير علاء الدولة على ابن سينا ليكون رئيسا لوزرائه حتى قبل أبو علي أخيرا.. وأفرغ نهاراته لمهام الإمارة ولياليه للقاء صفوة العلماء وسماع بديع أفانين الموسيقى..
أقام أبو علي في أصفهان حتى بلغ من العمر خمسا وخمسين سنة، وأصيب بما كان يعالج به مرضاه من آلام قرحة المعدة والقولون بسبب إفراطه في السهر الدائم والجهد الفكري والعمل المتواصل وقلة النوم، وأخذ أبو علي يعالج نفسه لكن المرض كان يرتد إليه مرة أخرى بسبب عاداته المفرطة تلك، وتحالف مع ذلك ما اضطر له من جهد مرهق في ركوب الأفراس والجياد لمصاحبة الأمير علاء الدولة في خروجه لرحلات الصيد أو الحرب إلى أن تفاقم عليه المرض واشتد حتى قذف الدم من فمه.. ويعجز عن السير عندئذ يهمل علاج نفسه ويقول لأخيه وصاحبه أبي عبيدة: "إن المدبر الذي في بدني عجز عن تدبير بدني فلا تنفعني المعالجة "..
وتحامل مع نفسه ليخرج مع علاء الدولة في حرب له مع أمير همذان واشتد عليه المرض هناك فأدرك أنها النهاية واستعد للقاء ربه وتفرغ للصلاة والتوبة ولاستغفار وقراءة القرآن وتصدق بكل ماله على الفقراء..
ولبث ينتظر النهاية.. حتى توفي يوم الجمعة الأول من شهر رمضان سنة أربعمائة وثمان هجرية، ألف وسبع وثلاثين ميلادية، قبيل صلاة المغرب ليوارى جثمانه الثرى في سفح جبل (همذان)..
يذكر التاريخ أن أبو علي (الحسين بن عبد الله بن علي بن سينا) كان أول من حقن الإبر تحت الجلد، وأول من استخدم التخدير لإجراء الجراحات، وأول من درس أمراض المعدة والأمعاء دراسة متعمقة، وأول من فطن إلى تأثير أحوال النفس في الجهاز الهضمي، وأول من فرق بين أسباب شلل الوجه، وأول من وصف الديدان المعوية، وأول من وصف الجهاز التنفسي والأمراض العصبية، وأول من وضع الثلج على الرأس..
وكان الناس يقولون: " كان الطب معدوما فأوجده (أبقراط)، وميتا فأحياه (جالينوس)، ومشتتا فجمعه الرازي، وناقصا فأكمله (ابن سينا) "..
وكان أبو علي هو أول من اكتشف في قسم الطبيعيات من كتابه (الشفاء) القانون الأول للحركة (في علم الديناميكا) قبل أن يتحدث (إسحق نيوتن) عن قوانين الحركة بخمسمائة عام..
وفي الموسيقى كان أبو علي أول من تحدث في كتابيه (الشفاء) و (النجاة) عن تأليف الأنغام، وعن أزمنة الإيقاع، وعن تعليل حدوث الأنغام الغليظة المنخفضة والأنغام الرفيعة العالية.. وكان أول من تحدث عن السلم الملون المكون من أنصاف نغمات متتالية، وأول من تحدث عن الفواصل الموسيقية المتحدة..
وفي أرجاء الأرض، وعلى مدى ثمانية قرون، انتشرت نصوص ابن سينا بالعربية في مكتبات الدنيا وانتشرت معها ترجمات لها وشروح باللغات اللاتينية والعبرية والألمانية والانجليزية والفرنسية والروسية.. وغيرها من اللغات الحية..
وظل كتابه (القانون) الذي تقرب كلماته من مليون كلمه، هو الكتاب العمدة في دراسة الطب بالجامعات الأوروبية إلى القرن الميلادي السابع عشر..
وتم احتفال أمم عديدة مع بداية العقد الثامن من القرن العشرين بالعيد الألفي لمولده، تكريما لعطائه وذكراه..
وفي تركيا وإلى اليوم لازال الناس يتناقلون طرائف ما كان من قصص ابن سينا مع مرضاه أو في حياته السياسية، بل وغير قليل ما نسج حول ابن سينا وخوارقه من الأساطير الرمزية كذلك..
وبهذا.. ومع إسهابنا لم نذكر لفرط ضيق المجال إلا طرفا مختصرا يسيرا من بعض حياة عظيم لقبه معاصروه بالشيخ الرئيس.. وأسبغ عليه الغرب لقب: أبو الطب البشري.. ولكم منا خالص اعتذارنا لما نلناه من ثمين أوقاتكم بالإطالة..
ولروح الشيخ الرئيس واسع الاعتذار منا لكثير ما قصرنا وأغفلنا في حديثنا المسهب/ الموجز.. عن سيرته..
----------------------------------
** (من مؤلفات الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن سينا)..
**كتبه:
كتاب المجموع... (مجلده)
الحاصل والمحصول........ (عشرون مجلده)
الإنسان.......... (عشرون مجلده)
البر والإثم................ (مجلدتان)
الشفاء............... (ثمان عشرة مجلده)
القانون – في الطب -........... (أربع عشرة مجلده)
الارصاد الكلية......... (مجلده)
كتاب النجاة........... (ثلاث مجلدات)
الهداية.............. (مجلدة)
القولنج......... (مجلدة)
لسان العرب........ (عشر مجلدات)
الأدوية القلبية............ (مجلد)
الموجز.............. (مجلد)
بعض الحكمة المشرقية.......... (مجلد)
بسان ذوات الجهة.............. (مجلد)
كتاب المعاد............... (مجلد)
كتاب المبدأ والمعاد............ (مجلد)
كتاب المباحثات........... (مجلد)
------------------------------------------------
**من رسائله:
القضاء والقدر
الآلة الرصدية/ غرض قاطيغورياس
المنطق بالشعر.. القصدائد في العظمة والحكمة في الحروف
تعقب المواضع الجدلية
مختصر إقليدس
مختصر في النبض (أعجمي)
الحدود
الأجرام السماوية
الإشارة إلى علم المنطق
أقسام الحكمة في النهاية واللانهاية
عهد كتبه لنفسه حي بن يقظان في أن أبعاد الجسم غير ذاتية له..
خطب..
الكلام في الهندبا..
في أنه لا يجوز أن يكون شئ واحد جوهريا وعرضيا..
في أن علم زيد غير علم عمرو..
رسائل إخوانية وسلطانية..
مسائل جرت بينه وبين بعض الفضلاء..
كتاب الحواشي على القانون..
كتاب عيون الحكمة..
كتاب الشبكة والطير..
----------------------------------------------------------------------
حاشية:
** كلمات ابن سينا وصاحبه أبو عبيدة تم اقتباسها من كتاب/ (أذكياء الأطباء)
تأليف: (محمد رضا الحكيمي)..